فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)}
ذكر هنا الذين كفروا، ثم جاءت من، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلًا من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين.
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على: أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، والكفر بجميع القسمين.
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى، ولكن الخلاف هل الشرك بجمعهما أيضًا أم لا؟
فبين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان.
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضًا: كما في قوله تعالى: {وَقالتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقالتْ النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قول الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها واحدًا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30-31].
فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكًا.
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال: وهل كبر إشراكًا من قولها: {اتخذ الله ولدا} [البقرة: 116]، فهو وإن كان محالفًا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات، إلا أنه اعتبرهن مشركات.
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك، هل يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقًا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221].
وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10].
وقال: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة، 10]، بين ما في حق الكتابيات قال: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، فكان بينهما مغايرة في الحكم.
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى: {وَقالتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]، المتقدم. ذكرها جمعًا مفصلًا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض، إلى آخر رحمه الله تعالى علينا وعليه.
ولعل في نفس آية {وَقالتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين:
الأول: قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قول الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 30]، أي يشابهونهم في مقالتهم، وهذا القدر اتصف به المشركون من انواع الشرك.
الثاني: تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بين ما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم والمشركين.
ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام، وأهل الكتاب يقع منهم حينًا وحينًا.
وقد أخذ بعض العلماء: أن الكفر ملة واحدة، فورث الجميع من بعض، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».
وقوله تعالى: {مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة}، اختلف في منفكين اختلافًا كثيرًا عند جميع المفسرين، حتى قال الفجر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها. وأنا أقول وجه الإشكال: أن تقدير الآية: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة}، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لم يذكر منفكون عماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه.
فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم قال بعد ذلك {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينة}، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن. اهـ. حرفيًا.
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين: وعليه جميع المفسرين.
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: أن منفكين أي مرتدعين عن الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة، أي أتتهم.
ولكن في منفكين، وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين، أي لم يكونوا جميعًا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقوله: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1-2]، أي لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى: {قالواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قولكَ} [هود: 53].
وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله، ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولًا منذرًا، تقوم به الحجة، ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى اهـ.
فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين، كما أسلفنا.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 16 ص 495 قال:
وفي معنى قوله تعالى: لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين. ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين.
هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث.
أو المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول.
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ}، أي لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه لا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه، وهو لم يقل مفكوكين، بل قال: منفكين، وهذا أحسن، إلى أن قال: والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل.
والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث اليهم رسولًا، وهاذ كقوله: {أيحسب الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، لا يؤمر، ولا ينهى، أي: أيظن أن هذا يكون؟ هذا ما لا يكون ألبتة، بل لابد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} [الزخرف: 3-5]. وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل.
تبين من ذلك كله أن الأصح في {منفكين} معنى (متروكين) وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى، وبالله تعالى التوفيق.
قوله تعالى: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}.
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها {رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفًا}.
وفي هذا قيل: إن البينة هي نفس الرسول في شخصه، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه، كما في قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم.
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه: «كلا والله لن يحزيك الله، والله إنك لتحمل الكلّ وتعين على نوائب الدهر» إلى آخره.
وقول عمه أبي طالب: «والله ما رأيته يلعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة» إلخ. وقد لقبوه بالأمين.
وحادثة شق الصدر في رضاعة، بل وقبل ذلك في قصة أبيه عبد الله، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها، فأبى. ولما تزوج وجخل بآمنة أم النبيِّ صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك، فقالت له: لا حاجة لي بك، فقال: وكيف كنت تتعرضين لي؟ فقالت: رأيت نورًا في وجهك، فأحببت أن يكون بي، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن، فلا حاجة لي فيك.
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم، ثم أكرمه الله بالرسالة، فكان رسولًا يتلو صحفًا مظهرة، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن.
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه: {وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 46] فعليه يكون رسول من الله بدل من البينة مرفوع على البدلية، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة.
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة. وعلى كل، فإن البينة تصدق على الجميع، كما تصدق على المجموع، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فلا رسول إلا برسالة تتلى، ولا رسالة تتلى إلاَّ برسول يتلوها.
وقد عرف لفظ البينة، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها.
فكأنه قيل: حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه، وآخر سورة الفتح {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] الآية.
قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ}.
جمع كتاب، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: كتب: بمعنى مكتوبات.
وقال ابن جرير: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة. يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء، وحكاه ابن كثير واقتصر عليه.
وقال القرطبي: إن الكتب بمعنى الأحكام، مستدلًا بمثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] وقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21].
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، فجعله كتبًا، لأنه يشتمل على أبواب من البيان.
وذكر الفخر الرازي: أنه يحتمل في كتب أي الآيات المكتوبة في المصحف، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه.
وقال الشوكاني: المراد: الآيات والأحكام المكتوبة فيها، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام.
والذي يظهر أن مدلول كتب على ظاهرها، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة، كما ينص عليه قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 16-17]، ثم قال: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 18-19]، وكقوله في عموم الكتب الأولى: {قالواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي}
[الأحقاف: 30]، وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ} [آل عمران: 3-4].
ولذا قال: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 114]، أي بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها، كما في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} [النور: 34].
وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].
وقال: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، ونحو ذلك من الآيات، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبًا قيمة مما أنزلت من قبل، وقد جاء عمليًا في آية الرحمن وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} [المائدة: 45] أي في التوراة {أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين} [المائدة: 45]، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم، كما قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب «أمرت أن أقرأ عليك سورة البيينة، فقال: أو ذكرت ثم».
وبكى رضي الله عنه، لأن فيها زيداة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها، كما هو معروف في القصة. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينة}.
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عمومًا من أهل الكتاب والمشركين معاص، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم، وبما سيأتي به، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وكقوله صراحة: {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14]، فلمعرفتهم به قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه، وخصهم هنا بالذكر في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينة}.
تنبيه:
مما يدل على ما ذكرنا من معنى كتب قيمة، أمران من كتاب الله.
الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعد عموم الحديث عن الذين كفروا، وما قدمنا عن نصوص.
الثاني: أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2]، فهذا نفس الأسلوب، ولكن قال: آياته، لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، فاقتصر على الآيات.
{وَمَا أمروا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم. ولكن هنا لم يبين موضع المر بعبادة الله مخلصين له الدين، هل هو في كتبهم لاسابقة، أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة؟
وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم، فما في كتبهم قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله} [النحل: 36].
وقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تتفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].
فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه، هو عين عبادة الله مخلصين له الدين. ومما في القرآن قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فارهبون وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فاتقون وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 40-43].
فقد نص على كامل المسألة هنا، أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب، لقوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41]، وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعلميات المذكورة نفسها، وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص.
وهذه الأوأمر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق، بل تستوجب الاجتماع والوحدة.
قوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة}.
القيمة: فيعلة من القوامة، وهي غاية الاستقامة.
وقد جاء بعد قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]، أي مستقيمة بتعالميها.
وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا} [الكهف: 1-2]، فنفى عنه العوج، وأثبت له الاستقامة.
وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل، من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات، لكنه ينحرف تارة يمينًا وشمالًا مع استقامته، فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج.
ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة، هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين، مع استقامته في سطحه.
وهكذا هو القرآن، فهو الصراط الكستقيم، ولذا قال تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} الملة القيمة، قيمة في ذاتها، وقيمة على غيرها: ومهيمنة عليه، وكقوله: {ذلك الدين القيم} [يوسف: 40]، وقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أمرتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين}
[الأنعام: 161- 163].
تنبيه:
إن في هذه الآية ردًا صريحًا على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك، حيث لم تسلم من لبس، وهي دعوة وحدة الأديان، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق، ومنه باطل.
أما الحق فهو وحدة الأصول، كما قال تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة} [البينة: 5]، وأما الباطل فهو الإبهام، بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع، بأن فروع كل دين قد لا يتفق كلها مع فروع الدين الآخر، فلم تتحد الصلاة فلي جميع الأديان ولا الصيام، ونحو ذلك.
وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع والسنة، تكمل تفصيل ما أجمل.
وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي أفعل تفضيل، فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبدًا مع نصوص القرآن، بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا مجمدًا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به، ولينصرنه وليتبعنه، وأخذ عليهم العهد بذلك. وقد أخبر الرسل أممهم بذلك. فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان، بل الدين الإسلامي وحده {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وبالله تعالى التوفيق.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)}
قرئت البرية بالهمزة وبالياء، فقرأ بالهمز: نافع وابن ذكوان. والباقون بالياء، فاختلف في أخذها.
قال القرطبي: قال الفراء: إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء: أي التراب. فأصله غير مهموز بقوله منه: براه الله يبروه بروًا، أي خلقه، وقيل: البرية من بريت القلم أي قدرته.
وقد تضمنت هذه الآية مسالتين: الأولى منهما: أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها، ومبحث خلود الكفار في النار، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيًا.
والمسألة الثانية:
أنهم شر البرية، والبرية أصلها البريئة، قلبت الهمزة ياء تسهيلًا، وأدغمت الياء في الباء، والبريئة الخليقة والله تعالى بارئ النسم، هو الخالق البارئ المصور سبحانه.
ومن البرية الدواب والطيور، وهنا النص على عمومه، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب.
وقد جاء النص صريحًا في هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]، وقال عنهم: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الزخرف: 40]، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين.
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين، لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله، كما جاء في هدهد سليمان، أنكر على بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله.
ونص مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة «أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة»، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء، فيقول لها: كوني ترابًا، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له، كما قال: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقول الكافر ياليتني كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].
وذلك والله تعالى أعلم: أن الدواب لم تعمل خيرًا فتبقى لتجازى عليه، ولم تعمل شرًا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب. بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار، فكان شر البرية.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} الحكم هنا بالعموم، كالحكم هناك. ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل أما من حيث الجنس فلا إشكال، لأن الإنسان أفضل الأجناس {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
وأما من حيث العموم، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على صالح المؤمنين أفضل من الملائكة. ولعل مما يقوي هذا الاستدلال، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة؟ هذا هو محل الخلاف.
وللقرطبي مبحث في ذلك: مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب. فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل.
وأما من جهة النصوص، فقال في سورة البقرة عند قوله: {قال يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 33]، قال:
المسألة الثالثة:
اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل، الملائكة أو بنو آدم؟ على قولين، فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة.
وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وقوله: {قُل لاَّ أَقول لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقول لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50].
وبما في البخاري يقول الله: «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه» وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض.
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7]، بالهمز من بَرأَ اللهُ الْخلق، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم» أخرجه أبو داود.
وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة.
وليس ها هنا شيء من ذلك خلافًا للقدرية والقاضي أبي بكر، حيث قالوا: الملائكة أفضل.
قال: وأنا من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل، لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، إلى آخره.
ثم رد هذا الاستدلال.
وقد سبقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة، والملائكة فيهم النص بأنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، والبشر فيهم النص {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، والفرق بينهما، كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة.
ففي الملائكة بالاسم: مكرمون، وهو يدل على الدوام والثبوت، وفي بني آدم كرمنا، وهو يدل على التجدد والحدوث.
وهذا هو الواقع، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم وفيهم، ولا يبعد أن يقال: إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة، إذ الملائكة تصدر عنها أعمال الخبر جبلة أو بدون نوازع شر، بخلاف بني آدم، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج، حيث ركبت فيه النفس اللوامة والأمارة بالسوء. ونحو ذلك من الجانب الحيواني.
وازدواجية المجهود، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها، ويبذل الجهد في فعل الخير، فهو يجاهد للتخليص من نوازع ثم الشر، هو يجاهد للقيام بفعل الخير، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد.
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك، لما ذكر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين، فقالوا: خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال: «بل خمسين منكم، لأنكم تجدون أعوانًا على الخير وهم لا يجدون».
وحديث: «سبق درهم مائة ألف درهم» وبين صلى الله عليه وسلم، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة، لأنه ثاني اثنين فقط، والمائة ألف جزء من مجموع كثير.
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك، ولا يتبقى لهم إلا درهم، خير بكثير ممن تنفق جزءًا ضئيلًا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة. فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس، ولكن تتفاوت الدوافع والعوامل لإنفاقه، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} فيه أربع مسائل:
ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن. والرابعة مفصّلة ولها شواهد.
أما الثلاثة المجملة فأولها قوله: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ}، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه، وإلا لقال: جزاؤهم على ربهم.
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَآئِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 31-36]، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده.
الثانية والثالثة قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 76]، فأجمل ما في الجنات، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار، مع إجمال تلك الأنهار، وقد فصلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة، وعدم سماع اللغو إلى آخره. كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال، في قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15]، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم.
قوله تعالى: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [المائدة: 119، التوبة: 100، المجادلة: 22].
يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة، من باب العام بعد الخاص.
وقد تقدم في وسرة الليل في قوله تعالى: {وَسَيجنبها الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} [الليل: 17-18]- إلى قوله- {ولسوف يرضى} [الليل: 21]، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى: {ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5]، أي للرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا في عموم {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7]، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم، ثم قال رضي الله عنهم، وقد جاء ما بين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم، كما في قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} [الفتح: 18]، فكانت المبايعة سببًا للرضوان.
وفي هذه الآية الإخبار بأن الله رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولم يبين زمن هذا الرضوان اهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا، وهي قوله تعالى: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100]، فقوله تعالى: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}، ثم يأتي بعدها {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}.
فهو في قوة الوعد في المستقبل، فيكون الإخبار بالرضى مسبقًا عليه.
وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} [الفتح: 18]، وهو إخبار بصيغة الماضي، وقد سميت (بيعة الرضوان).
تنبيه:
في هذا الأسلوب الكريم سؤال، وهو أن العبد حقًا في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه، لأنه غاية أمانيه، كما قال تعالى: {ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100]. أما الإخبار عن رضى العبد عن الله، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضيًا عن الله أم لا؟ إنه ليس من حقه ذلك فعلًا، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا وتجاوزا رضاهم حد النعيم إلى الرى عن المنعم.
كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ {عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36]، إنهم يعطون حتى يقولوا: حسبنا حسبنا، أي كافينا.
قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهنا يقول: إنه لمن خشي ربه، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة.
رغبة فيما عند الله، ورهبة من الله، ومثله قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 40- 41].
والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى، هي أجمع صفات الخير في الإنسان، لأنها صفة الملائكة المقربين.
كما قال عنهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
وفي هذه الآية السر الأعظم، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله، والخشية أشد الخوف. اهـ.